خبايا سراديب الفصح
بدأ التعب يحكم سيطرته عليّ. ثقل جفناي ،و تخدرت يداي. تقاذفتني أمواج من حيرة متلاطمة لم أجد لها براً، أو شاطئاً تستكين عنده.
"أي ذنب قد اقترفت لأُصلب ها هنا؟هل سيقتلونني ،أم سيكتفون بتركي مصلوبا معذبا حتى أموت كمدا؟ لكن لماذا؟فليجبني أحد قبل أن يعتريني الجنون،لماذا؟ لماذا يا من اخترتك صديقا يوما ،لماذا؟"
تمر اللحظات قاتلة ؛فتظلم الدنيا من حولي ،وتشتد اسوداداً،لكن حنينا دافئاً يجذبني ،فيعود بي ساعات إلى الوراء.
حينها، كنت الأسعد على الإطلاق.أجل ،كنت أسعد الخلق، و أنا أجلس مع مخطوبتي نرتب آخر التجهيزات لحفل زفافنا المرتقب.
قليل من القلق اعتراني حين خطر لي أن أستشير أمل في أمر دعوة صديقي ناعوم إلى حفل الزفاف.
حينها، سألتني ذات السؤال الذي يكاد يقتلني الآن:"اليهودي؟ لماذا؟".
فأجبتها واثقا:"كما تعلمين أمل، إنه صديقي و سيفرح كثيرا بدعوتي".
-"حسنا، افعل ما بدا لك. لكن ...".
قاطعت توجسها مسرعا:"لا تقلقي حبيبتي،سأكون على ما يرام".
انتهى لقائي الأخير بها بقبلة هادئة على جبينها ،استشعرت خلالها تسارع نبضاتها ،و تتالي أنفاسها برتابة لم أعهدها من قبل.ودعتها و أنا أشعر بنظراتها تلاحقني ،و تقترب مني كلما ابتعدت عنها حتى غيبني المنعطف.
دقائق مرت و أنا أمشي، حتى وجدتني أقف عند مدخل حارة اليهود.سرت قشعريرة في جسدي و أنا أراقب بحذر شارع الحارة الرئيسي الملتوي كأنما هو ثعبان ضخم يبحث عن ضحية يسوقها قدرها لتلج عالمه الدفين؛ فيُشبع بها نهمه اللا متناهي. حينها فقط، عزمت على العودة ،و قررت أن أتناسى أمر دعوة ناعوم إلى حفل الزفاف. بيد أن صوته أتاني من الخلف ليزرع في قلبي خوفا ارتعدت له أوصالي:"محمد،ها أنت ذا. كنت أبحث عنك يا صديقي".
تصنعت ابتسامة باهتة،و أبديت عجبي قائلا:"أهلا ناعوم. ما الأمر؟".
-"تعال إلى بيتي،فهناك بإمكاننا أن نتحدث".
ولجت حارة اليهود برفقة ناعوم رغم وجلي و شعوري بعدم الاطمئنان. سرنا معاً في أزقة الحارة الملتوية كدهاليز متاهة،و أنا أشعر بأن أحجارها و أشجارها تصرخ بي أن عد من حيث أتيت يا مسكين ،لكن الأوان كان قد فات.
دخلت منزل ناعوم؛ فباغتني أحدهم بضربة على مؤخر رأسي شعرت معها بأنني انتهيت.
لا أدري كم مر من الوقت قبل أن أستيقظ لأجد نفسي مصلوبا هنا على هذه الخشبة اللعينة. صالت بي الذكريات و جالت ،لكنني كنت دوما على موعد مع صفعة أليمة تعيدني إلى واقعي المظلم.
مكثت وقتا ليس باليسير، قبل أن يتداعى إلى سمعي صوت همسات و ضحكات؛ فاستعنت بالله ومكثت أرقب ولوج أصحابها. فتح أحدهم الباب ودلفوا متتالين. كانوا أربعة حاخامات استطالت لحاهم حتى ظن من يراهم أنهم أزهد الخلق، و أعبدهم. يمشون بوقار لا يليق بقتامة وجوههم و صدورهم. لمحت ناعوم يتبعهم و سيما الوجل تظهر على سحنته جلياً؛فتحاملت على تعبي و فاجأته موجها كلامي إليه:"لماذا فعلت ذلك؟ أنا لم أفهم شيئا حتى الآن".
-"إنها أوامر الرب".
-"الرب؟! هل أمر الرب بتقييدي مصلوبا؟"
تنحنح كبيرهم حين لمس سخرية واضحة في كلامي، و قال بحزم:"أجل، أوامر الرب. لكن الرب لم يأمر بذبحك أنت خصيصا فأنت حشرة أقل من أن تُذكر".
دب الرعب في قلبي حين علمت أن مصيري سيكون القتل على أيدي هؤلاء المفترين،لكنني أظهرت رباطة جأش، وقلت:"حقا؟ ما هي أوامر الرب إذن؟".
-"رغم أنني لست مجبرا على إخبارك ،لكن لا بأس. ورد في التلمود عندنا أن دم المسيحي الممزوج مع فطير عيد الفصح له مفعول السحر على اليهودي الذي يتناوله؛ لذا فأوامر الرب تقضي بأن نستخلص دمك لنعجن به فطير الفصح".
ضحكت طويلا حتى شعرت بأعين الحاخامات تدور غيظا و تكاد تخرج من محاجرها،و قلت لناعوم :"ما أغباك يا ناعوم، ألم تعلم أنني أسلمت منذ عام بعد أن كنت نصرانيا". فتقدم مني أحدهم و صفعني بقوة قائلا:"أتسخر منا أيها المسلم التافه. بالطبع نعلم أنك أسلمت، لكن كبراءنا و كهنتنا أفتوا لنا بجواز استخلاص دم المسلمين و استخدامه ،لأن كثيرا من النصارى قد دخلوا في الإسلام".
-"أنتم تعلمون أن توراتكم محرفة ،وتلمودكم محرف. الله العدل منزل التوراة لا يأمر بمثل هذا. هذا ظلم و افتراء على الله بغير الحق".
ضحك أحدهم هازئا ،و قال:" مسكين أنت. كمم فمه يا ناعوم ،قبل أن يبدأ بسرد مواعظه الفارغة على مسامعنا. سأريحك أيها الشاب لأنك صديق ناعوم. لن نعذبك،و لن نضعك في برميل المسامير ،رغم أن هذا سيوفر لنا المزيد من الدماء. فقط سنذبحك من الوريد إلى الوريد بهدوء و رحمة، هل يرضيك هذا؟".
صدرت عني همهمات؛ ففهموا أن لدي ما أقوله ؛فأماط ناعوم قطعة القماش عن فمي ؛فصرخت بهم:" ماذا تنتظرون؟ هيا اذبحوني .أريحوني من هذا العذاب فلقد تعبت".
ضحك ناعوم و هو يعيد تكميمي قائلا:" ليس قبل أن يهدأ الوضع في الخارج،فالإعلانات عن فقدك تملأ الأرجاء". و خرجوا واحداً تلو الآخر يضحكون و يتهامسون.
هناك حيث المنعطف ابتلعه،عُلقت ورقة كتب فيها:"محمد سعيد 25 عاماً. شوهد آخر مرة بالقرب من حارة اليهود ثم اختفى. فعلى من يعرف عنه شيئا إبلاغ عائلته." ذُيِّلت الورقة بصورة لشاب جميل القسمات يُسند وجهه إلى ظهر يمناه ،و يلتمع في بنصره خاتم فضي مبرقش.
بقيت الورقة تراوح مكانها أياماً، و بقي صاحب الصورة أسيراً لأحد سراديب الفصح الماسونية، حتى أعلن بعد شهر عن العثور على جثة مقطوعة الرأس لشاب يافع- يلتمع في بنصره الأيمن خاتم فضي مبرقش- قد صفِّيت دماؤه ،و مزِّق جسده و ألقي على قارعة طريق.
تمت بقلمي